Top

كاوست تقود جهود التكيّف مع تغيّر المناخ عبر الرصد والتحليل والتنبؤ

مع تزايد الحاجة الملحّة إلى التكيّف مع الظروف المناخية المتغيّرة، تقود ثلاث مجموعات بحثية في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) دراسات علمية وتقنية تقدّم إطاراً قوياً لتعزيز القدرة على الصمود المناخي. فمن الرصد الفضائي، إلى النمذجة الإحصائية للظواهر الطبيعية المتطرفة، وصولاً إلى التنبؤات الهيدرولوجية (المائية) المتقدمة، تجمع هذه الجهود بين تخصصات أساسية لفهم واقعنا المناخي المتطور والتعامل معه. 

مراقبة التغيّرات من الفضاء  

تعمل مجموعة البروفيسور ماثيو مكابي لأبحاث الهيدرولوجيا والزراعة ومراقبة الأراضي (HALO) على تغيير الطريقة التي نراقب بها الظروف المناخية، وآلية الاستجابة لها باستخدام أنظمة الرصد الفضائي في الزمن الحقيقي. 

ويقول مكابي "يوفر الرصد الفضائي للأرض منصة مذهلة لرصد حالة العمليات العالمية وظروفها. وإذا أردنا أن نفهم نظام الأرض، ونديره بشكل أفضل، فسوف يلعب الاستشعار عن بُعد دوراً محورياً في توفير الرؤى والإرشادات".  

في عام 2023، حقق فريق HALO إنجازاً مهماً بإطلاق أول قمر اصطناعي خاص بهم، وهو كيوبسات (CubeSat) صُمم للمراقبة الدقيقة للأرض في منطقة الخليج الجافة. ويُعدّ أول قمر اصطناعي يجمع بين جهاز (GNSS) العاكس، الذي يتتبع انعكاسات إشارات (GPS) من سطح الأرض، ومستشعر طيفي عالي الدقة يرصد اليابسة والبحر لمتابعة الغطاء النباتي والتربة والزراعة وصحة النظم البيئية.  

وبدمج بيانات الأقمار الاصطناعية مع النمذجة، أنشأ الفريق تقديرات مفصلة هي الأدق حتى الآن لاستخدام مياه الري وصحة النباتات، وهي معلومات أساسية لمواجهة ندرة المياه. كما يتعاون الفريق مع محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية لدعم إدارة النظم البيئية في المراعي شمال المملكة. 

ويشير مكابي إلى أن تحويل بيانات الرصد إلى "معلومات عملية قابلة للاستخدام يتطلب قدراً كبيراً من النمذجة والمعالجة، لتقديم رؤى يمكن للمشغّلين والمسؤولين المعنيين الاستفادة منها".  

ويركّز عمل الفريق حالياً على تطوير نظام متكامل لمعالجة البيانات وتوحيدها، مستفيدين من تحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لتوليد معلومات تنبؤية قابلة للتطبيق في الزمن شبه الحقيقي. 

مطاردة الإحصائيات المتطرفة في مناخ متغيّر 

فيما يرص فريق مكابي المناخ من الأعلى، يتعمّق فريق البروفيسور رافاييل هوزر من مجموعة "الإحصاء المتطرف" (XSTAT) في الأسس الرياضية لكيفية نمذجة وتوقع الظواهر الجوية والمناخية القصوى. والتحدي الجوهري هنا هو التنبؤ بأحداث غير مسبوقة قد تكون أشدّ أو أوسع نطاقاً من أي شيء رُصِد سابقاً. 

ويقول هوزر "تتطلب دراسات المخاطر والتخطيط في هذا السياق القدرة على التنبؤ بالظواهر المتطرفة. يجب أن تظل الأساليب والنماذج الإحصائية التي نطورها قوية وموثوقة حتى عند الاستقراء إلى ما يتجاوز البيانات المرصودة. نحن نبتكر نماذج جديدة لها ضمانات نظرية مع الحفاظ على المرونة في التقاط الأحداث النادرة والمتطرفة".  

ألقى البحث الأخير الذي أجراه الفريق الضوء على الظواهر المناخية المتطرفة التي حطمت الأرقام القياسية في النظام المناخي. وكشفت تحليلاتهم عن اتجاهات مقلقة: بين عامي 2016 و2024، سجلت درجات الحرارة على اليابسة ارتفاعات قياسية تجاوزت أربعة أضعاف ما كان متوقعًا في حالة عدم حدوث تغير مناخي. وفي الوقت نفسه، سجلت درجات الحرارة انخفاضات قياسية بنسبة النصف، في حين زادت وتيرة تسجيل أعلى معدلات هطول الأمطار اليومية وأدنى معدلات الجفاف الشهري بنسبة 40% و10% على التوالي. 

كما طوّر الفريق نماذج متقدمة لتحليل الظواهر المتطرفة عبر الزمان والمكان. وأظهرت دراساتهم أن أحواض بعض الأنهار كالمسيسيبي والدانوب ستشهد هطول أمطار متطرفة أشد وأكثر بفعل الاحتباس الحراري العالمي، وهي معرفة أساسية لإدارة الفيضانات المستقبلية. كما ابتكروا أدوات هجينة تمزج بين الإحصاء والتعلّم العميق للتنبؤ بحرائق غابات أكثر تواتراً وشدة في حوض البحر المتوسط. 

 

لتلبية الحاجة الملحة إلى تنبؤات أكثر دقة بشأن الطقس والمناخ، يستخدم باحثو كاوست أساليب متقدمة: من أنظمة المراقبة الفضائية في الوقت الحقيقي إلى النماذج الإحصائية ومجموعات البيانات الشاملة.

ويؤكد هوزر أن التحدي الأكبر يكمن في نمذجة "الظواهر المركّبة" التي تقع معاً في الزمان أو المكان، حيث تفشل النماذج التقليدية في التعامل مع عدم الاستقرار وتعقيدات التفاعلات المناخية. وهذا يستدعي أدوات إحصائية ونماذج متقدمة، وحوسبة عالية الأداء، وتعاوناً وثيقاً بين العلماء وصانعي القرار. 

ويضيف "الجمع بين أحدث الأساليب الإحصائية والتعلّم العميق والنماذج الرياضية، إلى جانب تطوير قنوات فعّالة للتواصل حول الظواهر الجوية والمناخية القصوى وتأثيراتها، مع تقديم مؤشرات دقيقة لعدم اليقين، هي عناصر أساسية لتعزيز القدرة على الصمود والاستعداد بشكل أفضل للأحداث المتطرفة في المستقبل".  

التنبؤ بالظواهر الهيدرولوجية المتطرفة 

ويكمل هذه الثلاثية متعددة التخصصات فريق البروفيسور هايلك بيك في مجموعة "الظواهر المناخية والهيدرولوجية المتطرفة  " (HYEX)، من خلال تحويل الرصد والتحليل إلى قدرات تنبؤية عملية. ففي عام 2023، نشر الفريق خريطة عالمية عالية الدقة لتغيّرات المناطق المناخية من 1900 إلى 2100 عبر سبعة سيناريوهات اجتماعية واقتصادية، كاشفةً عن تحولات تاريخية ومستقبلية جذرية في الغطاء النباتي والنظم البيئية. 

يقول بيك "أظهرت نماذجنا أنه حتى في ظل سيناريو معتدل لانبعاثات غازات الدفيئة، من المتوقع أن تتحول مساحة تبلغ حوالي 2.6 مليون كيلومتر مربع من مناخ قطبي متجمد إلى مناخ بارد موسمي".   

كما طوّر فريقه واحدة من أكثر قواعد البيانات تطورًا عن هطول الأمطار على مستوى العالم حتى الآن، وهي MSWEP، التي تجمع بين بيانات الأقمار الاصطناعية والنماذج المناخية والرصد الأرضي لتقديم تقديرات دقيقة للأمطار في مختلف المناطق.  

تخدم قاعدة MSWEP طيفاً واسعاً من المستخدمين من مديري المياه الذين يدرسون تدفقات الأنهار، إلى خبراء الأرصاد الذين يختبرون النماذج المناخية، إلى شركات إعادة التأمين التي تحسّن تقييماتها للمخاطر. كما استُخدمت لتحليل أحداث متطرفة مثل الفيضانات التي شهدتها الإمارات العربية المتحدة أواخر عام 2024، حيث خلصت الدراسة إلى أن تغيّر المناخ زاد شدّة الفيضانات بنسبة تراوحت بين 10 و40%. 

ويضيف بيك أن النسخة الأحدث من قواعد بيانات  MSWEP، التي استغرقت عامين لتطويرها، استخدمت نماذج تعلم آلي متقدمة لدمج بيانات الأقمار الاصطناعية والنماذج والرصد الأرضي بشكل أفضل، مما حسّن دقة رصد الأمطار. وقد بيّنت أبحاث حديثة قادها بيك ضمن تحالف دولي أن حدّة الجفاف العالمي ارتفعت بنسبة تقارب 40% خلال الـ 120 عاماً الماضية. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى زيادة معدلات التبخر في الغلاف الجوي الناجمة عن الحرارة. 

ومع ذلك، يشدّد بيك على أن التقدم التقني وحده غير كافٍ، فالتواصل واتخاذ الإجراءات لا يقلان أهمية. محذّراً من أن "البيانات تصبح دون جدوى إذا لم تُستخدم أو لم تصل إلى الناس ولم تدفعهم للتحرك، كما أن السلطات يجب أن تقاوم الضغوط لمنح تراخيص البناء في المناطق البيئية الهشة".    

منصة متكاملة للصمود المناخي 

إن التقاء هذه البرامج البحثية الثلاثة في كاوست – من الرصد إلى التحليل إلى التنبؤ – يوفّر منصة قوية لدعم التكيّف مع تغيّر المناخ وتعزيز القدرة على الصمود، خصوصاً في المناطق الجافة مثل المملكة العربية السعودية. ومع اشتداد الظواهر المناخية المتطرفة، لم يعد هذا النوع من التعاون متعدد التخصصات خياراً إضافياً، بل ضرورة حتمية للتأقلم مع عالم يزداد تغيرًا.