كان أيفن فيولا، في بدايات مسيرته المهنية، أي قبل سنوات من انضمامه كأستاذ مشارك إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، مفتوناً بقدرتنا على تصميم وتصور أنظمة معقدة بشكل أكبر مما يمكن للعقل أن يتخيله، أو أصغر مما يمكن أن تراه العين.

ويقول فيولا: "أدركت أن علم الأحياء يمثل التحدي الأكبر أمام عملية التصور المرئي. في البداية، لا توفر النماذج البيولوجية التي يقدمها الكمبيوتر، حلولاً فورية من ناحية الأهداف الدوائية الجديدة أو الأساليب العلاجية للأمراض. لكنها توفر شيئاً آخر، وهو فائدة شبه شمولية، ألا وهي لغة لفهم ما نراه".

ويضيف فيولا: "يمكننا اليوم، مع تقدم العلوم الحيوية والطب، أن نجعل من التعايش مع أمراضٍ كانت في الماضي بمثابة حكم بالإعدام، آمرا ممكناً. حيث بات باستطاعتنا اكتشاف تفاعلات جديدة، على مستويات مجهرية، تمنحنا نظرة ثاقبة لمحرك الحياة. وعندما يغدو البحث أكثر تعقيداً، قد ينعكس الأمر سبال على عامة الناس، وحتى أولئك الذين يثقون كل الثقة في عمل العلماء والأطباء، قد يشعرون بالإرهاق عند قراءة ملخّص أحد الأبحاث".

وإذا أخذنا فيروس سارس-كوف-2 (كوفيد - 19) على سبيل المثال، فإنّ بروتين "سبايك"، الذي هو بنية انتقال فيروس الحمض النووي الريبي للفيروس إلى الخلايا المضيفة، قد أصبح هدفاً رئيسياً كنقطة محتملة لإيقاف وظيفة الفيروس وانتشاره. لكن الشخص العادي لا يمكنه تصور كيف ستبدو عملية الانتقال هذه في الواقع، انطلاقاً من قفيصة الغلاف البروتيني للفيروس، وصولاً إلى الخلية المضيفة. كما لن يتمكن باحث الطب الحيوي من استيعاب المفهوم بسهولة أكبر من رؤية العملية برمتها على المستوى الجزيئي.

يقول فيولا: "قد تُظهر النماذج الحالية جزءاً فقط من الصورة: بروتين سبايك، أو قفيصة الغلاف البروتيني للفيروس التي تحيط بالحمض النووي الريبي، أو البروتين N الذي يحزم الحمض النووي الريبي. لكن، من دون تصور كامل للوضع، سيكون من الصعب تصور بنية فيروس كورونا وكيفية عمله".

مجموعة أبحاث التصوّر المرئي النانوي في كاوست

لهذا السبب، دخلت مجموعة أبحاث التصوّر المرئي النانوي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (نانوفيس) في شراكة مع سكريبس ريسيرش Scripps Research وتي يو وين TU Wien ونانوغرافيكس Nanographics، من أجل بناء أول نموذج مرئي كامل على الإطلاق لفيروس سارس-كوف-2، يتّصف بالدقّة على المستوى الجزيئي.

وتعدّ برمجيات المجموعة ملكية فكرية خاصّة، حصيلة كميات هائلة من الأبحاث والبيانات التي جمّعت من مصادر مختلفة في جميع أنحاء العالم، وثمرة تعاون وثيق مع شركاء كاوست. وعلى الرغم من أن فيروس كورونا المستجدّ لا يزال يمثل تهديداً خطيراً للبشرية، إلا أنّه أصبح الآن أحد الفيروسات الأكثر فهماً من قبل البشرية.

الجديد في المنصة هو سرعة التنفيذ. إذا كان البحث عميقاً وكانت السمات الحيوية مفهومةً جيداً، فيمكننا من الناحية النظرية نمذجة أي كائن بيولوجي بلمح البصر. يمكننا تحقيق ذلك من خلال وضع قواعد لكيفية تصرف المواد الكيميائية في البنى المختلفة، ثم تكرار هذه القواعد لإنشاء نموذج أسرع بـ10,000 مرة من الطرق الحالية.

لتوضيح كيفية تحقيق ذلك، يمكننا أن نستعين بما نراه في برنامج "غوغل إيرث". عند إنشاء عرض ثلاثي الأبعاد للعالم، لم تنشئ غوغل 3 تريليون عنصر فريد لكل شجرة على وجه الأرض. بل بنت عدداً من نماذج الأشجار، ثمّ كررتها في جميع أنحاء العالم، ووضعت طبقات من صور الأقمار الصناعية، كغلاف لإنشاء المشهد ثلاثي الأبعاد الذي يمكننا استعراضه اليوم.

يقول فيولا: "كما يستخدم غوغل إيرث النسخ المتماثل، يمكننا إنشاء قواعد رياضية تخبر الكمبيوتر بكيفية تفاعل المواد الكيميائية وكيفية هيكلتها معاً". ويضيف: "صحيح أن الطبيعة تميل إلى الفوضى والهدم، لكنها مسهبة ومتكررة أيضاً. إذا علمنا أن مجموعة من المواد الكيميائية تشكل سطحاً، فيمكننا كتابة مجموعة قواعد توضّح بنية هذه المواد وكيفية توليدها سطحاً كامل من خلال التكرار".

حدودنا هي مدى فهمنا للسمات الحيوية

لم تكن نمذجة سارس-كوف-2 أول مشروع لمجموعة نانوفيس. إذ شرعت المجموعة في البداية في بناء نموذج للميتوكوندريون، مصنع طاقة الخلية حقيقية النواة. ولكن عندما اجتاح الوباء الأرض، أدرك الفريق أنهم مضطرون إلى الالتفات إلى موضوع آخر.

يقول فيولا: "مثلما صممنا الفيروس، سنصمم الميتوكوندريون، وسنستكشف هياكل جديدة لنمذجة عضيات أخرى، أو حتى خلايا كاملة".

سنكون قادرين على العمل بسرعة ودقة، لأنه يمكن تكرار العناصر الأساسية لهذه التصورات في الأعمال المستقبليّة. يمكننا نسخ سلسلة كاملة من الحمض النووي، ثم إعادة ترتيب النيوكليوتيدات لتتناسب مع الجينات المناسبة. يمكن نسخ العضيات "مسبقة الصنع" واستخدامها في نماذج من خلايا الجسم الأخرى.

ثمّة عصر جديد من المعرفة البيولوجية، وسيكون مرئياً أكثر من أي وقت مضى. وتقنيتنا ترتقي لتكون على مستوى المهمة. ويقول فيولا: "أتطلع إلى أن أكون قادراً على محاكاة الحياة من جديد، نمذجتها مرّة أخرى، بدلاً من تهديدها".