Top

وقود المستقبل

يعتبر مركز أبحاث الاحتراق النظيف في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (CCRC) مركز عالمي رائد في أبحاث الاحتراق.

-بقلم سونيا توروسينسكي، أخبار الجامعة

بعد أربع سنوات فقط من افتتاحه الرسمي، استطاع مركز الاحتراق النظيف في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أن يرسّخ مكانته كمركز عالمي رائد في أبحاث الاحتراق وتطوير الخبرات اللازمة لجعل الوقود والاحتراق أكثر كفاءةً ونظافةً وجدوةً من الناحية الاقتصادية.

نظراً لما تتطلّبه من بيئات عالية الضغط وذات درجات حرارة مرتفعة، فإنّ أبحاث الاحتراق التجريبي تعدّ عملية مكلفة وصعبة من ناحية التجهيز والبنية التحتية. ونتيجة لذلك، فضلاً عن زيادة الاهتمام العالمي بالطاقة المتجددة، فقد قللت العديد من المراكز والمنشآت البحثية العالمية من تركيزها على تجارب أنواع الوقود وأبحاث الاحتراق.

يشرح وليام روبرتس، مدير مركز الاحتراق النظيف وأستاذ الهندسة الميكانيكية، أن تقنيات الطاقة المتجددة أصبحت أكثر تنافسية وتطوراً من الناحية التقنية، على الرغم من أن أبحاث الاحتراق، على عكس ما قد يقوله البعض، تعدّ مجالاً واعداً يتعيّن فيه بذل الكثير من الجهود. يقول روبرتس: " نحن على قناعة راسخة بأن محركات الاحتراق الداخلي ستكون موجودة خلال السنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة".

وفي حين أن التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة هو الخطوة الطبيعية التالية، فلا يمكننا تجاهل الدور الكبير للهيدروكربونات في تخزين الطاقة وفي تطوير وقود سائل نظيف ومستدام وفعال.

يقود مركز الاحتراق النظيف هذا التوجه عبر بناء منشآت جديدة، واستقطاب كبار الباحثين وأعضاء هيئة التدريس، وكذلك عبر بناء شراكات صناعية قوية مثل مشروع FUELCOM مع أرامكو السعودية ذي العشر سنوات.

في الواقع، فإنّ المرافق الواسعة والمتخصصة للغاية لدى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تتيح إمكانية اختبار الحسابات وعمليات المحاكاة المعقدة باستخدام الحاسب الآلي في العالم الفعلي. إذ يضمّ المركز ستة مختبرات، وقريباً ستصبح سبعة، يتخصص كلّ مختبر فيها بميدان تخصص محدد، مثل الليزر التشخيصي وإعادة تكوين الوقود بمساعدة البلازما. بالإضافة إلى مرافقه المتطورة الحديثة، يعدّ المركز أيضاً واحداً من أكبر مستخدمي الحاسوب الخارق شاهين في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية.

مع اتساع الموارد تتسع المسؤولية

في العام 2013 قدم مركز الاحتراق النظيف البنية السيبرانية التحتية السحابية CloudFlame، لإدارة بحوث الاحتراق ولتفعيل إمكانيات التعاون ومشاركة البيانات. ويحتفظ المركز بنظيرات دقيقة لعمليات المحاكاة التي تتم في كل مقياس. وبفضل وجود تسعة أعضاء في هيئة التدريس وأكثر من 150 شخصاً، فإن أبحاث المركز عديدة وواسعة، بحيث يغدو التعاون بين المجموعات البحثية أمراً حيوياً وأساسياً.

أحد العلماء الذين يعملون في الحرم الجامعي في مركز أبحاث الاحتراق النظيف في الجامعة.

وكان جيمس دريسكول، رئيس معهد الاحتراق وأستاذ هندسة الفضاء في جامعة ميتشيغان، قد تلقّى دعوة مؤخراً للتحدث في مؤتمر أبحاث جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية حول الاحتراق في الظروف القصوى، والذي عقد في مارس 2018. حيث علق دريسكول على التأثير العالمي المتزايد للمركز قائلاً: "تتمتع جامعة الملك عبدالله بسمعة فريدة كونها واحدة من منشآت أبحاث الاحتراق الرائدة على مستوى العالم. يوجد الكثير من المنشآت التي تبلغ من العمر 100 عام، وعلى الرغم من أن عمر جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أقل بكثير من ذلك، إلا أنها تأسست لتأخذ زمام الريادة العالمية في هذا المجال". وأضاف دريسكول: "إننا في معهد الاحتراق يسعدنا أن ندعم مركز الاحتراق النظيف في جامعة الملك عبدالله، وأن نزوره لنشهد على نجاحاته".

تطوير المعرفة بأساسيات الاحتراق

استجابةً للعمل المتنامي للتخفيف من تغير المناخ والحد من اعتماد المملكة على الوقود الأحفوري، تحول الاهتمامفي أبحاث الاحتراق إلى مجال الاحتراق تحت الظروف القصوى.

ويعكس موضوع المؤتمر السنوي لهذا العام "الاحتراق في الظروف القصوى" الاهتمام والحاجة لتطوير المعرفة في هذا المجال. إن إيجاد وقود أنظف وأكثر كفاءة يعني زيادة الكفاءة الديناميكية الحرارية، ما يعني ضغط مرتفع ودرجات عالية وانخفاض في التفاعلات بين الوقود والبلازما.

يقول روبرتس: "تعمل التوربينات الغازية عند ضغط 30 بار تقريباً وتتحرك الظروف القصوى إلى منطقة 300 بار، وهو فرق شاسع من حيث الضغط. وعلى هذا المقياس، تكون الحسابات أكثر صعوبة والكيمياء مختلفة. إنه اكتشاف تجريبي وحسابي شامل". وهذا الأمر قاد الباحثين في مواضيع الاحتراق إلى إعادة النظر في الأساسيات.

تخزين الطاقة للغد

مع انخفاض أسعار الألواح الشمسية ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى وزيادة كفاءتها، فإن السؤال التالي هو: كيف يمكن تخزين هذه الطاقة؟

قدمت رؤية المملكة 2030 ميدان الاحتراق بوصفه فرصة لحل مشكلة تخزين الطاقة. ويوضح روبرتس أن الحل لن يتمثّل على الأرجح بالبطاريات أو الحدّافات (البكرات الدورانية) أو الغاز المضغوط. أحد الاحتمالات هو تحويل الفوتونات إلى إلكترونات والإلكترونات إلى وقود.

ويضيف: "جزيء الهيدروكربون رائع لتخزين الطاقة. ولهذا السبب تنتج العمليات البيولوجية الدهون الثلاثية والسكريات. من الصعب حقاً التغلب على كثافة طاقة الهيدروكربون، لذلك بالنسبة للقطاع التجاري فإن الغاز الطبيعي سيظلّ مهيمناً". ويضيف: "لا أرى أننا سنبتعد تماماً عن الهيدروكربونات، لكنني أعتقد أن مصدر الهيدروكربونات سيتغير".

يعمل الباحثون في مركز أبحاث الاحتراق النظيف (CCRC) التابع للجامعة على كيفية جعل الوقود وعملية الاحتراق أكثر كفاءةً ونظافةً وجدوةً من الناحية الاقتصادية.

ويوضح روبرتس أن ثمّة فجوة حالية بين الطاقة التي يمكن إنتاجها من ألواح الخلايا الشمسية والطاقة اللازمة لتحريك طائرة أو سفينة، ما يجعل تخزين الطاقة مسألةً ذات أهمية قصوى.

بالإضافة إلى تخزين الطاقة، تلعب أبحاث الاحتراق دوراً في إنشاء الطاقة الشمسية أو الوقود الإلكتروني مع قاعدة هيدروكربونية يمكن دمجها في الشبكة الحالية. يعتمد مركز الاحتراق النظيف منهجاً علمياً، حيث تعمل مجموعات بحثية مختلفة فيه على عمليات فرعية بهدف التوصل إلى حلول نهائية. إنّ المجموعة الواسعة من مجالات البحوث والمرافق الشاملة في المركز مؤهلة بشكل خاص لاختبار تطوير مناهج البحث.

فيما يتعلق بالمواصلات ونقل الركاب، فإن الطاقة الهجينة قادمة. ووفقاً لروبرتس، فإن هذا التحول منطقي من حيث كفاءة الطاقة واحتياجات الطاقة: "خلال 25 عاماً المقبلة، سيتم تزويد 75 بالمئة من السيارات بالكهرباء بشكل جزئي و90 بالمئة سيكون لها محرك احتراق داخلي بحيث تستمر أهميتها حتى مع اعتمادنا على الكهرباء".

في حين ستستمر المحركات وأنواع الوقود في تزويد الطاقة، فإن المحركات وأنواع الوقود نفسها لن تبدو متشابهة. ومن أجل تلبية هذه المتطلبات الجديدة، باشر مركز الاحتراق النظيف في نوفمبر 2017 بتأسيس مختبر جديد لمحركات الاحتراق الداخلي، سيضم 11 خلية اختبار جديدة تحتوي على مجموعة متنوعة من المحركات، بما في ذلك أسطوانة ضوئية كبيرة، للاستخدام الثقيل والخفيف.

استطاع مركز الاحتراق النظيف في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أن يرسّخ مكانته كمركز عالمي رائد في أبحاث الاحتراق وتطوير الخبرات اللازمة لجعل الوقود والاحتراق أكثر كفاءةً ونظافةً وجدوةً من الناحية الاقتصادية.

ومن المقرر أن نشهد في ديسمبر 2018 استكمال المنشأة الجديدة التي تبنيها مجموعة جونز الهندسية، والتي ستتيح للباحثين فرصة اختبار أفكار تجريبية جديدة، من شأنها تغيير مشهد المحركات والوقود الذي نعرفه اليوم. فعلى سبيل المثال، سيتمكن الباحثون من اختبار الظروف القصوى، وتجربة المحركات المركبة، ومحركات 8 أشواط، وتغيير موائع التشغيل، واستكشاف إمكانية تعديل الأوكتان عند الطلب. كل ذلك بغية الوصول إلى 60 بالمئة من الكفاءة الديناميكية الحرارية، التي تعدّ وفقاً لروبرتس، هدفاً سامياً للغاية.

الاستفادة القصوى مما تقدمه المملكة

بالإضافة إلى استكشاف طرق للحد من انبعاثات الكربون، أوضح روبرتس أن المركز يعمل أيضاً على كيفية انتقال ثاني أكسيد الكربون المنبعث من النفايات إلى عنصر ذي قيمة. إن هذه الفكرة قادت الباحثين في مجال الاحتراق إلى العودة ثانيةً إلى العوامل الأساسية، حيث يستكشف الباحثون دورات حرارية جديدة ويعيدون النظر في حركية الاحتراق من أجل تحديد ما يحدث على المستويات الأساسية.

وقد أدى هذا العمل بدوره إلى إيجاد سبل للتعاون داخل جامعة الملك عبدالله. حيث يعمل مركز الأغشية المتطورة والمواد المسامية على فصل الأكسجين والنيتروجين قبل عملية الاحتراق. وبمجرد حدوث الاحتراق، ينبعث ثاني أكسيد الكربون عند ضغوط عالية، وهو ما يهتم به مركز الحفز الكيميائي في جامعة الملك عبدالله. فيما يمكن للاستخدامات الإضافية لثاني أكسيد الكربون عالي الضغط أن تطبّق في أبحاث مركز علي النعيمي لأبحاث وهندسة البترول، لتعزيز عمليات استخراج النفط.

وسواء أكان تحويل النفايات إلى مصادر طاقة أو ابتكار مواد، فإن فريق مركز الاحتراق النظيف والمراكز المتعاونة في الجامعة لا تدخر وسعاً عندما يتعلق الأمر بزيادة الكفاءة وتحقيق الاستفادة القصوى من معالجة الوقود الأحفوري وعملية الاحتراق.

طلبة المدرسة الشتوية لمركز أبحاث الاحتراق النظيف 2018 مع هيئة التدريس والمشرفين عليهم في الحرم الجامعي.

 ​

مستقبل مشرق لجميع الفصول

يركز المركز بشدة على نشر المعرفة وإعداد باحثي الغد في مجال الاحتراق، ويتمتّع بتحقيق سبقين هذا العام بوصفه أول مدرسة شتوية لمركز الاحتراق النظيف وأول مدرسة صيفية لمعهد الاحتراق العالمي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية.

ففي يناير، فتح المركز أبوابه أمام خمسة عشر من أفضل طلاب الهندسة والكيمياء الواعدين لمدة ثلاثة أسابيع تم التركيز فيها على موضوع جديد كل أسبوع: المحركات، والوقود، واللهب، حيث يقدم الطلبة عروضاً أسبوعية لتعزيز تعلمهم النظري في الفصل الدراسي وترسيخ خبرتهم العملية في المختبرات.

وبعدها بأشهر فقط استضاف مركز الاحتراق النظيف المدرسة الصيفية لمعهد الاحتراق العالمي – وهي جمعية تعليمية غير ربحية دولية علمية وهندسية تهدف إلى تشجيع البحث في علوم الاحتراق. واستمرت هذه المدرسة أسبوعاً واحداً وجمعت معاً طلبة ماجستير ودكتوراه يدرسون في المملكة وفي جامعات عالمية، بالإضافة إلى قادة الصناعة السعوديين، للتعرف على الابتكارات الجديدة في ميادين الوقود واللهب والمحركات، والتي تضمن لتقنيات الاحتراق أن تتصدى للتحديات المجتمعية والبيئية في القرن الحادي والعشرين.

وتماشياً مع رسالة الابتكار في الجامعة، كانت المدرسة الصيفية لمعهد الاحتراق العالمي هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وكانت مفتوحة للمشاركين العالميين من خلال بثّ مرئي عالي الجودة. وتلقّى المشاركون في المدرسة الصيفية محاضرات قدّمها أساتذة من مركز الاحتراق النظيف ومدرسون من الخارج، بالإضافة إلى دورات عملية في مختبرات المركز الستة.

يعتبر اختيار معهد الاحتراق العالمي لمركز الاحتراق النظيف في جامعة الملك عبدالله بوصفه المقر التالي لمدرسته الصيفية، والأول من نوعه في الشرق الأوسط، مؤشراً على المكانة الأكاديمية القوية التي يحظى بها المركز والسمعة العالمية المحترمة له. حيث يتمثّل الهدف من المدرسة في تشجيع الطلبة على توسيع نطاق رؤاهم العلمية.

يستضيف مركز أبحاث الاحتراق النظيف في الحرم الجامعي مجموعة متنوعة من المؤتمرات والفعاليات الدولية بمشاركة الطلبة والضيوف وأساتذة الجامعات وقادة الصناعة.

يقول ماني ساراتي، المدير المساعد لمركز الاحتراق النظيف، والأستاذ المساعد في الهندسة الكيميائية والبيولوجية: "حققت أنشطتنا البحثية نتائج جيدة، وشعرنا أن الوقت مناسب للمركز لإنشاء مدرسة صيفية جديدة في المنطقة ونشر المعرفة".

ويضيف ساراتي: "لا يقتصر الاحتراق على تحسين التقنية فحسب، بل إنه علم مثير ومحفّز للفكر. هنا تجتمع الكيمياء والفيزياء والديناميات الجزيئية وكيمياء الكم، والتشخيص المتقدم بالليزر، والرياضيات، والحوسبة عالية الأداء، والمحركات، وتوربينات الغاز- كل هذه الأشياء تجتمع معاً لصنع جهاز معقد للغاية، لكنه ممكن التنفيذ فقط لأن الفريق يتفهّم الجوانب الأساسية في شتّى المجالات. فالمملكة العربية السعودية تتجه نحو اقتصاد قائم على المعرفة، وهدف المدرسة هو تشجيع تبادل المعرفة". ​

 

من جهتها، أشارت أنجيلا فيولي، أستاذة الهندسة الميكانيكية والهندسة الكيميائية في جامعة ميتشيغان إلى أنّ مجال الاحتراق له مستقبل مشرق في المستقبل، ونوهّت في المحاضرة وورشة العمل التي أقامتها في المدرسة حول أساسيات الوقود إلى تنوع الجمهور، وأشادت بالاهتمام الذي تلقته من الطالبات تحديداً.

في اليوم الأخير من المدرسة، قامت ديانا لوكاست، الأستاذة المساعدة في الهندسة الميكانيكية، بإدارة ندوة خاصة بموضوع النساء في ميدان الاحتراق، والتي ضمّت أساتذة وطلبة ماجستير ودكتوراه، وعلماء مختبر يعملون في مجال الاحتراق. كان هدف الندوة هو تبيان الدوافع والتحديات التي تواجه النساء. وأوجز ساراتي، خلال مقابلة على الهواء مباشرة على موقع الجامعة على فيسبوك، إلى أنّ: "المدرسة الصيفية تسعى إلى تحطيم الحواجز. نحن بحاجة إلى أفكار جديدة من الرجال والنساء من جميع الخلفيات لدفع عمليّات الاحتراق في اتجاهات جديدة". 

إنّ المتطلبات الملحة التي يفرضها تغير المناخ، وتطوير سياسة الطاقة في المملكة، جعلت المركز يواجه تحديات علمية وتقنية ملحّة غير مسبوقة. ونظراً للجهود الكبيرة التي يقدمها المركز والتي ساهمت في رفع اسمه عالياً على الساحة العالمية وفي فترة زمنية قصيرة، فليس هناك شك في أن مركز الاحتراق النظيف يسير بخطى ثابته نحو تحقيق رسالة الجامعة الطموحة والمساهمة في تحقيق الرؤية الواعدة للمملكة 2030.