Top

الكربون الأزرق: أمل المستقبل

تعتبر بيئة أشجار المانغروف في كاوست من النظم البيئية المهمة للحياة البحرية، والتي تقوم بتوزيع الاكسجين ونقله تحت الماء عبر الجذور الهوائية لهذه الاشجار. تصوير: كارلوس دوارتي / كاوست.

القدرة العالية لأشجار المانغروف والأعشاب البحرية على عزل واحتجاز وتخزين ثاني أكسيد الكربون تجعلها من العوامل الفعالة للتخفيف من تبعات تغيّر المناخ، وتضعها ضمن الأنظمة البيئية المهددة التي يجب حمايتها.

عصفور هازجة غابة المانغروف (طائر ينتمي الى فصيلة Acrocephalus scirpaceus avicenniae) يجلس على أحد فروع شجرة المانغروف في كاوست. تصوير: برايان جيمس.

خصصت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) مساحة 152 هكتارًا من أراضي مدينتها الجامعية للطبيعة والبحوث حيث تضم أكثر من 90 هكتارًا من أشجار المانغروف في محطة أبحاث ومحمية ابن سينا التي تشكل ملاذاً لأكثر من 240 نوعًا من الطيور المقيمة والمهاجرة على مدار العام.


غير أن الطيور ليست الوحيدة التي تسكن في هذا النظام البيئي الممتد من الأرض إلى المياه الساحلية الضحلة، إذ توفر جذور أشجار المانغروف -المقاومة للملوحة - الغذاء والمأوى لحضانة العديد من الحيوانات الأخرى، بما في ذلك سرطان البحر والسحالي والروبيان والرخويات والأسماك.

جدير بالذكر، أن أشجار المانغروف من أكثر النظم البيئية إنتاجية على وجه الأرض، وهناك العديد من الدراسات التي يجريها علماء كاوست في مركز أبحاث البحر الأحمر لمعرفة مدى الفائدة البيئية لهذه النباتات ودورها في عزل وتخزين غاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وتحسين جودة المياه عبر أنسجتها وجذورها، فضلاً عن دعم النظم البيئية الأخرى، مثل الشعاب المرجانية.

دورة الكربون

وكمثيلاتها من الأشجار والنباتات التي تنمو على اليابسة، تعمل أشجار المانغروف على امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وعزله بمعدل يتجاوز 30 مرة أكثر من غابات المناطق الشمالية والاستوائية والمعتدلة، الا أن ما يميز أشجار المانغروف هو قدرتها على "دفن" ثاني أكسيد الكربون المحتجز، والطحالب الدقيقة، والمواد العضوية الميتة الأخرى داخل جذورها الهوائية في طبقات من الرواسب الغنية، حيث يتم تخزين الكربون لقرون عديدة وقد تصل ولآلاف السنين.

منظر قريب من الجذور الهوائية للمانغروف تحت الماء. تصوير: فينسينت ساديرني/كاوست

ولأن الأخشاب والأوراق الميتة المكونة من الكربون لا تحلل بسهولة في البحر كما هو الحال على اليابسة بسبب نقص الأكسجين في تربة المانغروف، فإنها بمرور الوقت تتطور إلى مخزون كربوني كثيف مدفون في الرواسب البحرية يطلق عليه مصطلح الكربون الأزرق، والذي تلعب أشجار المانغروف دوراً كبيراً في تشكيله وتخزينه، كما تساعد أشجار المانغروف على حماية الشواطئ من عوامل التعرية والعواصف وارتفاع مستوى مياه البحر، وتقوم بدور كبير في تعزيز التنوع الحيوي، وتزويد سكان المجتمعات الساحلية بالأسماك والغذاء.

البروفيسور كارلوس دوارتي أحد خبراء الكربون الأزرق في غابات المانغروف الساحلية في كاوست. المصدر: كاوست.

البروفيسور كارلوس دوارتي، أستاذ العلوم البحرية في مركز أبحاث البحر الأحمر في كاوست، هو أحد أبرز خبراء العالم في النظام البيئي للكربون الأزرق، ولديه أبحاث كبيرة في هذا المجال صاغ من خلالها مفهوم الكربون الأزرق بصورة دقيقة، وهو إنجاز حصل من أجله على جائزة آفاق المعرفة المتميزة في علم النظم البيئية وبيولوجيا حفظها في عام 2020 والتي تمنحها مؤسسة بنك بلباو فيزكايا أرجنتاريا (BBVA)، إحدى أكبر المؤسسات المالية في العالم.

يقول البروفيسور دوارتي:" في بداية هذا القرن، كان ينُظر لغابات المانغروف، ومروج الأعشاب البحرية، والمستنقعات المالحة على أنها مكونات غير مهمة من النظام البيئي البحري، الا أننا استوعبنا الآن مدى أهميتها في بناء استراتيجيات الكربون الأزرق للتخفيف من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، واليوم تقوم العديد من الدول بجهود كبيرة لحماية هذه البيئات والمحافظة عليها من أجل الوفاء بالتزاماتها المنصوصة في اتفاقية باريس للمناخ".


الدكتور فينسينت ساديرني وهو يأخذ عينات من الكربون العضوي المذاب من المياه البحرية في البحر الأحمر. المصدر: كاوست.

تعتبر إذابة الحجر الجيري (كربونات الكالسيوم) من الطرق الأخرى التي تستخدمها أشجار المانغروف لعزل ثاني أكسيد الكربون في مياه البحر وهي بذلك تشكل أحواض كربونية فعالة، وفي هذا السياق، تشير نتائج البحث التي توصل إليها عالم الأحياء البحرية في كاوست الدكتور فينسينت ساديرني -أحد المتعاونين مع دوارتي- إلى أن غابات المانغروف في البحر الأحمر تعمل على اذابة الكربونات في تربتها بمعدل ستة أضعاف غابات المانغروف في أجزاء أخرى من العالم، الامر الذي يرفع من القلوية الكلية لمياه البحر، ويعزز من قدرته على تخزين ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وبذلك يخفف من ظاهرة ارتفاع حموضة المحيطات وظاهرة الاحتباس الحراري، ويساعد على ضبط درجة حرارة الأرض - وهي سمات مهمة للتخفيف من أضرار تغير المناخ.





الأعشاب البحرية

مجموعة من الأعشاب البحرية قبالة الساحل السعودي في البحر الأحمر. تصوير: فينسينت ساديرني/كاوست.

البحر الأحمر هو منطقة فريدة من نوعها لعلماء كاوست المتخصصين في دراسة الأعشاب البحرية بسبب استضافته لتنوع كبير من الأعشاب البحرية، تحديد 12 نوعًا، وعلى عكس البحار الأخرى، فإن معدل الملوحة فيه مرتفع بصورة استثنائية، ولا تصب فيه أي مصادر رئيسية للمياه العذبة، كما أنه دافئ جدًا، وهذه الظروف غير العادية تجعل منه بيئة بحرية مناسبة للدراسة والبحث ومقارنة الحياة البحرية فيه بالأنواع الأخرى حول العالم.

وتعتبر الأعشاب البحرية من الأنظمة البيئية للكربون الأزرق التي تقدم خدمات بيئية مماثلة لأشجار المانغروف، حيث تشكل مروجاً واسعة في المياه الساحلية الضحلة والبحيرات، وتعمل على عزل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي ودفنه مع الكربون -المحتجز في أوراقها والمواد البحرية العضوية الميتة- في رواسب كربونية سميكة، كما تعمل على حبس الجزيئات والرواسب في الماء وتقليل التعكر وتنقية مياه البحر، وهي أيضاً ملاذ للحياة البحرية المتنوعة كالسلاحف وأسماك القرش والعديد من الحيوانات الأخرى.

الدكتورة نيوس غارسياس-بونيه تحمل عينة من رواسب الأعشاب البحرية التي تم جمعها من البحر الأحمر، والتي سيتم استخدامها لتقييم مخزون الكربون والنيتروجين. تصوير: فينسينت ساديرني/كاوست.

أجرت عالمة الأحياء البحرية الدكتورة نيوس غارسياس-بونيه، زميلة ما بعد الدكتوراه في كاوست وباحثة ضمن مجموعة أبحاث البروفيسور كارلوس دوارتي ، أجرت مسحًا لمروج من الأعشاب البحرية في منطقة البحر الأحمر لقياس معدل تركيز مخزونات الكربون والنيتروجين في رواسبها، تقول:" تعمل مروج الأعشاب البحرية على حفظ الكربون المخزن في الرواسب تحت الماء لفترات زمنية طويلة، وعلى الرغم من أنها مقصورة على المناطق الساحلية وأن تغطيتها النسبية صغيرة، الا أنها مسؤولة عن 20٪ من إجمالي الكربون العضوي المدفون في المحيط".

وتفيد الدكتورة نيوس أن الأعشاب البحرية يمكنها أن تنمو في البحر الأحمر عند درجات حرارة تصل الى 35 درجة مئوية، وهذا يظهر أنها تكيفت للعيش في ظروف قاسية من ارتفاع الملوحة ودرجات الحرارة، وبالتالي تحمل ظروف الاحتباس الحراري في المستقبل.

الإدارة البيئية والتعليم

في حين أن أشجار المانغروف والأعشاب البحرية في البحر الأحمر مستقرة نسبيًا وأخذت بالتوسع، الا أنها تقلصت بشكل كبير في أجزاء أخرى كثيرة من العالم بسبب العوامل البشرية مثل التنمية الساحلية واستصلاح الأراضي والاستزراع السمكي - وخاصة مزارع الروبيان، والنفايات السامة من الأنشطة الصناعية، وعندما يتم التخلص من الأعشاب البحرية وأشجار المانغروف من البيئة البحرية، فإن الكربون المدفون يعود مرة أخرى وينتشر في الغلاف الجوي ، مما يؤدي إلى تفاعل متسلسل يؤثر على الكائنات الحية والنظم البيئية والبشر الذين يعتمدون عليها كمصادر للغذاء.

يقوم علماء الأحياء في كاوست بتسجيل معدل نمو وانتشار أشجار المنغروف في حرم الجامعة كجزء من المسح السنوي. المصدر: كاوست

تُظهر صور الأقمار الاصطناعية وبيانات الأبحاث المتعلقة بغابات المانغروف المحمية في كاوست زيادة بنسبة 20٪ في الحياة البيئية على مدى عقد من الزمان، وهذا نتيجة للسياسات التشغيلية والإرشادات وأنظمة المراقبة التي وضعها قسم الصحة والعلوم والبيئة في كاوست بهدف الحفاظ على صحة أشجار المانغروف، يقول الدكتور محمد عمر، مدير الحماية البيئة في كاوست: "يدرس قسم الصحة والعلوم والبيئة بعناية أي مشروع بناء مقترح في الحرم الجامعي ، مثل الطرق والمباني والمرافق الجديدة ، ومدى تأثيراتها البيئية، ويقوم بانتظام بتقييم صحة أشجار المانغروف ومعدل انتشارها".

مجموعة من طلبة المدارس الابتدائية في كاوست في زيارة لغابات المانغروف في إحدى الدروس الميدانية. المصدر: كاوست.

ومن خلال شراكته مع مركز أبحاث البحر الأحمر، يعمل قسم الصحة والسلامة والبيئة أيضًا على تنظيم أنشطة تعليمية لمجتمع الجامعة تهدف للتثقيف بالفوائد الهائلة لهذه النظم البيئية، بما في ذلك مراقبة الطيور والمشي في الطبيعة، والمواد التعليمية لطلبة المدارس من مرحلة رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية.

تضع إدارة كاوست حماية البيئة والمحافظة عليها ضمن أولوياتها الرئيسية عبر تبني خطط واعية بيئيًا ومشاريع صديقة للبيئة ومستدامة تدعموها الأبحاث المبتكرة، كما تمتلك الجامعة رؤية طموحة تهدف لغرس أدبيات العمل البيئي في القادة والمسؤولين في المملكة العربية السعودية و شركاء الجامعة والمتعاونين حول العالم، يقول البروفيسور دوارتي: "لقد ساهمت أبحاثنا في كاوست بشكل كبير في زيادة المعرفة العالمية ببيئة وموائل الكربون الأزرق ، والتوعية بدورها الاستراتيجي في التخفيف من تبعات ظاهرة تغيّر المناخ ، وتجنب آثارها المدمرة، وتقديم ثروة من الفوائد للمجتمعات المحلية ".