Top

رحلة العلم والفنّ في أعماق البحر الأحمر

قام فنانون من سويسرا بتصوير هياكل مراقبة الشعاب المرجانية المستقلة – وهي أبراج اصطناعية تستخدم لجمع ودراسة الكائنات الصغيرة التي تستعمر الشعاب المرجانية. المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس، 2022

تعود العلاقة بين العلم والفن الى زمن مبكر من تاريخ البشرية، حيث مثّلت الابتكارات العلمية مصدراً لإلهام الفنانين ولا تزال. هذا الامر تجسد قبل فترة وجيزة مع المصوّران المحترفان نيكولاس كريبس، وتايو أونوراتو، من سويسرا اللذان قدما الى المملكة العربية السعودية وتحديدا مركز أبحاث البحر لمشاهدة كائنات غامضة ومخفية تصعب رؤيتها، تختبئ بداخل الشعاب المرجانية في البحر الأحمر.

تبدأ القصة في سويسرا، حينما التقى المصوّران بالباحث غواو روزادو، طالب الدراسات العليا القادم من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، أثناء قضاءه فترة التخصص في برنامج يحمل اسم "فنانون في المختبرات" الذي يقع مقره في جامعة زيورخ بسويسرا -وانضمت إليه «كاوست» في عام 2016- حيث يمنح الفنانين فرصةً ليكونوا على دراية أكبر بالبحث العلمي، وأكثر إبداعا في استخدام التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى كونه يساعد العلماء في استعراض وجهات النظر المتنوّعة التي تساعدهم على رؤية أبحاثهم بمنظورٍ جديدٍ.

هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية التي تم تطويرها لأول مرة لاستخدامات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (2010 - 2020). المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس، 2022

ما تعرف عليه المصوّران لم يكن مجرد أجهزة علمية لقياس التنوع الحيوي البحري؛ بل تعدى الامر ذلك لمشاهدة والتقاط صور لكُتَل سكنية مأهولة بكائنات حيّة داخل هياكل موجودة بقاع البحر تتحرك وتتنافس وتتعاون، وتهاجر.

هذه الكائنات المجهولة قد تساعدنا على تعزيز فهمنا لوظائف الشعاب المرجانية، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكننا دراسة مخلوقات لا يمكننا العثور عليها؟

هذا بالضبط ما يعمل عليه علماء «كاوست» على طول الساحل السعودي من الشمال إلى الجنوب منذ منتصف العقد الماضي، وذلك باستخدام تقنيتين لإيجاد المخلوقات التي تعيش في أماكن متوارية عن الأنظار. الأولى هي هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية (ARMS)، والثانية هي شفرة الحمض النووي الخيطية، حيث وجدوا 10,700 نوع مميز له صلة بالشعاب البحرية الموجودة في البحر الأحمر.

في عيون الفنانين، تتشابه تجمّعات الشعاب غالباً مع المجتمعات البشرية، حيث أنّ تلك التجمعات البحرية تعمل بشكل مدهش على كيفية تقسيم المساحة، والدخول في علاقات ما بين خيّرة، وعدائية، أو وفقاً للمصلحة، وترميم الموئل أو التخلّي عنه

الفنّ والعلم.. الإبداع في قمته

حينما نتحدث عن الترابط والتداخل بين العلم والفنّ يقفز للذهن مباشرة اسم الإيطالي ليوناردو دافنشي وعصر النهضة. بالنسبة لنا يقترن هذا الاسم بالإبداع الفني في مجال الادب والموسيقى والنحت والرسم، ولوحاته التي تعد مزيجًا مثاليًا من التناظر واللون والنغمات والزوايا.

تم استرداد واحد من 16 وحدة من هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية لجواو روسادو بعد سبعة أشهر فقط في البحر. وسيتم تجميع الهياكل الستة عشر المتبقية في أغسطس 2023. المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس، 2022

لوحة من هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية قبل كشط الكائنات الحية منها لتحليلها. المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس،2022

في جانب اخر، ما قد لا يعلمه الكثيرون ان دافينشي يُعد من أشهر علماء عصر النهضة الأوروبية في الهندسة المعمارية والفلك والرياضيات والفيزياء والهندسة الحربية والجيولوجيا والنبات والخرائط وعلم المتحجرات أو الأحياء القديمة.

ويمكن القول بأن تأثير العلم على الفنّ أو العكس لم يكن وليد عصر النهضة وانما قد يعود الى زمن اكتشاف الإنسان النار لأول مرة. هذا الاكتشاف الذي فتح لنا عالم جديد تمامًا من الألوان والإمكانيات. في تلك اللحظة كنا قادرين على استكشاف ورؤية أشياء جديدة، مثل تسخين الأشياء، وإذابة المواد لإنتاج مواد جديدة.

هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية تحت الماء تضم مستعمرات من الكائنات الحية الصغيرة. المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس، 2022

هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية

كان أول ما تعلمه المصوران كريبس وأونوراتو عند قدومهما ل«كاوست» هو الغوص بجهاز التنفّس تحت الماء "سكوبا" تحت إشراف المصوّر المتخصص لقاع البحار في الجامعة، مورغان بينيت سميث، والباحث المتخصص في نظام الشعاب المرجانية الدكتور سونغ هي، ونجحوا في التقاط مجموعة ضخمة من الصور المدهشة والفيديوهات لهياكل المراقبة الذاتية للشعاب (ARMS) في البحر وفي داخل المختبر.

ويقدر العلماء أن مئات الآلاف من الكائنات البحرية في أعماق البحار والمحيطات لم يتم اكتشافها بعد، ويمكن إيجاد هذه الكائنات الخفية في المحيطات المفتوحة وفي الخنادق العميقة الموجودة في قاع البحر وفي داخل الشعاب المرجانية.

وتقنية هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية (ARMS)، عبارة عن هياكل مصنوعة من ألواح متعددة مثبتة فوق بعضها البعض وتحاكي بنية ثلاثية الأبعاد للشعاب المرجانية، حيث تمكننا من دراسة الكائنات الحية الخفية التي لا يتم رصدها خلال عمليات المسح المرئية التي يجريها الغواصون نظرًا لصغر حجمها أو لكونها كائنات ليلية.

وتتكون تلك الهياكل من ألواحٍ مصفوفة فوق بعضها البعض، لمحاكاة الهيكل المعقّد للشعاب المرجانية، ويتكوّن كل صفّ من 9 ألواح يفصل بينها فراغ يشتمل على أشكال بلاستيكية متشابكة؛ لخلق مناطق ذي تدفق عالٍ ومنخفضٍ، مثلما يحدث داخل الشعاب، ثم توضع في قاع البحر لتصبح مستعمرات للمخلوقات البحرية، وبعد ذلك تُجْمَع وتُفكك في المختبر للكشف عمّا التصق بها.

كانت تلك الهياكل بالنسبة للباحث روزادو –الذي يدرس التنوُّع الحيوي للشعاب القريبة من الشاطئ – الأداة الأمثل لهذه المهمة، ويعبر عن ذلك قائلاً: "إنّها الطريق الأمثل لمعرفة التنوّع الحيوي الخفي للشعاب بشكل حقيقي وموثوق، إذ إنّ الغوص لن يفيد برؤية أي شيء يتعلّق بالتنوّع الحيوي الشامل للشعاب؛ لأنّ الكثير منها يعيش داخل الفراغات الخفية بين الصخور والمرجان".

وتمثّل الكائنات الحيّة الخفية- يُشار إليها أحياناً بـ "الكريبتو بيوم " (كائنات حيّة صغيرة ودقيقة لا يمكن رؤيتها أثناء إجراء عمليات المسح البصري العادية) - نحو 70 في المئة من التنوّع الحيوي للشعاب التي لم يتم دراستها بعد. وتُستخدم هياكل المراقبة لمقارنة التنوّع الحيوي بين الشِعاب في أماكن مختلفة، ولا يزال روزادو مهتماً بكيفية اختلاف تجمعات الكائنات الحيّة الخفية عن تلك المتولّدة عبر المواطن المختلفة داخل الشِعاب.

يعلق المصور كريبس: "أصابتنا الدهشة بمفهوم تلك الوحدات، وبالمشاهد البصرية لهذه الكائنات المتنوّعة للغاية التي تستوطن نفس البيئة".

في أغسطس 2021، قاد عالما البحار في «كاوست»، البروفيسور مايكل بيرومين، والدكتورة سوزانا كارفالهو، فريق بحثي من بينهم روزادو، كانت مهمته وضع 32 هيكل مراقبة ذاتية للشعاب المرجانية قبالة الساحل بالقرب من «كاوست»، حيث تم تقسيمها بالتساوي بين أربعة موائل بارزة للشعاب: شِعاب متفرّعة، شِعاب مطلية (تعلق بالصخور في وسط المرجان أو على حافته)، سطح مرصوف بالطحالب، وأنقاض المرجان.

ويتقصّى روزادو في مشروعه البحثي اختلاف تجمّعات المستوطنين الأوائل (الطليعة) عن تجمعات ما بعدَ عامينِ من الغمر (الناضجة) عبر تلك الموائل.

يشرح روزادو: "تستغرق هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية عامين لتتحول إلى مستعمرة بالكامل، إلا أنّ ذلك يعتمد على المنطقة، إذ إنّ الطبيعة تتحرك بوتيرتها الخاصّة".

لوحة فنية جميلة من إنتاج العلم، يمكنها أن تلهم الناس للحفاظ على الحياة المائية. المصدر: تايو أونوراتو ونيكو كريبس، 2022

جمع روزادو في مارس 2022 أربعة هياكل مراقبة ذاتية للشعاب من كل موئل، ويعلّق بقوله: "إنها عملية مُعقّدة للغاية؛ نظراً لضرورة إغلاق الهيكل بشكل محكم في حاوية تجنّباً لهرب الشعاب منه –إنها تشبه الكائنات الحيّة المتحركة كالأسماك وسلطعون البحر- ثم تحضينها في الظلام لتقييم الدورات الحياتية التي تمرّ بها، حيث يستغرق نشر 32 وحدة من الهياكل يوماً واحداً؛ لكنّها تستغرق أسبوعين لاستعادة 16 وحدة".

وعاد روزادو إلى المختبر، وخلط تلك الكائنات الحيّة الخفية في كلِ لوحٍ، مستخدماً تقنية شفرة الحمض النووي الخيطية لمعرفة وتقييم التنوع الحيوي الخفي السابق. يقول: "تتنوع تجمّعات الكائنات الحيّة الخفية بالنسبة للموائل في كل موقع بشكل مميز في الغالب، رغم أنّ هذه الموائل ليست بعيدة عن بعضها البعض، هناك بعض التشابه، لكن غالبية الأنواع فريدة بالنسبة لموئل واحد".

وتعتبر شفرة الحمض النووي الخيطية التي يستخدمها علماء «كاوست» من التقنيات الرائعة التي تساعدهم في تحديد شكل وحجم وسلوك تلك الكائنات التي تفقد خلاياها باستمرار التي تتسرب في بيئة المحيطات والبحار. وتحتوي كل خلية على الحمض النووي (المعلومات الجينية) لهذه الأنواع، ويمكن جمعها من الماء أو الرواسب أو هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية.

الفنَّ لنقل العلم

في عيون الفنانين، تتشابه تجمّعات الشعاب غالباً مع المجتمعات البشرية، حيث يرى كريبس الأمر من زاوية أنّ تلك التجمعات البحرية تعمل بشكل مدهش على كيفية تقسيم المساحة، والدخول في علاقات ما بين خيّرة، وعدائية، أو وفقاً للمصلحة، وترميم الموئل أو التخلّي عنه. ويضيف:" إنّ رؤية كل هذا يحدث في هيكل صغير يشبه المنزل يثير أفكارنا".

ويطمح أونوراتو وكريبس في نيّل تشجيع الناس لعملهم من أجل طرح الأسئلة حول ما يشاهدونه، يضيف كريبس: "من الرائع إثارة فضول الناس للتعرف أكثر حول هذا المجتمع الغامض والمجهول لدينا ".

ويتفق روزادو أنّ الفنَّ أمرٌ حيويٌّ لنقل العلم، ويضيف: "يذكّرنا الفنُّ دائماً بمدِّ يدِ العون للناس، كعلماء ينصب تركيزنا على الأوساط الأكاديمية، وكتابة الأوراق البحثية أحياناً، لكن لا نحقق الكثير إذا تحدّثنا فيما بيننا فقط كعلماء".

لقد وجد العلماء والفنانون أرضية مشتركة، يقول كريبس: "لقد دُهشت بما يمتلكه العلماء، ظننتُ أنّ الفنانين فقط هم من يملكون ذلك".

وينصب تركيز علماء البحار حاليّاً على مهمة عالمية للحفاظ على البيئات البحرية التي تدهورت بسبب النشاط البشري، خاصّة في ضوء التغيُّر المناخي، والتأثيرات البشرية الإقليمية، يقول روزادو: "تتدهور الشعاب المرجانية، وتشير بعض التقارير إلى أنّ 99 في المئة من الشعاب قد تنقرض في عام 2050 بسبب الاحتباس الحراري، نحتاج للتواصل مع أشخاص في جميع أنحاء العالم قدر المستطاع، ويمكن للفن أن يكون وسيلة هامّة لإيصال رسالة قوية يفهمها ويتفاعل معها العالم أجمع".