Top

عباقرة العصر الذهبي الإسلامي

مايك بروتون، المؤرخ القادم من جنوب أفريقيا، جاء إلى جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية لمناقشة أولئك الذين أحدثوا طفرة في منهجية البحث العلمي، ممّن كانوا جزءاً من بيت الحكمة خلال العصر الذهبي الإسلامي.

زار مايك بروتون، المؤرخ المولود في جنوب أفريقيا، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في إطار برنامج الإثراء في الربيع 2017، لمناقشة العباقرة الذي أحدثوا خروقات كبرى في منهجية البحث العلمي، ممّن كانوا جزءاً من بيت الحكمة خلال العصر الذهبي الإسلامي، بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديين.

وقال بروتون خلال كلمته الرئيسية في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية: "إن العلماء الذين سأصفهم اليوم ليسوا رواداً فحسب، بل كانوا أساتذة في مهنتهم، ممن سبقوا عصرهم سنوات وسنوات في أبحاثهم".

وأشار بروتون إلى أن العلماء المسلمين العظماء في بيت الحكمة قدموا مساهمات في العديد من المجالات، بما في ذلك إدخال مفهوم الصفر، الذي سمح لعلماء الرياضيات باستكشاف ترتيب الخانات والكسور العشرية، وإفحام النظرية اليونانية الخاطئة التي فسرت قدرة البشر على النظر من خلال أشعة تنبعث من العينين.

وأضاف: "إننا نستخدم اليوم مصطلح المخترق- disruptive، والذي ينطبق كثيراً على إنجازاتهم، لأنهم لم يكتفوا بالبناء على عمل القدماء، بل إنهم اخترقوا تماماً التوجّهات العلمية والتقنية. لقد ابتدعوا طرقاً جديدة لفعل الأشياء والنظر في الأمور".

عصور الظلام المزعومة

يعتقد كثير من الناس في الغرب وغيره أن الفترة ما بين نهاية العصر الإغريقي وحتى عصر النهضة كانت مجرّد صحراء علمية. لكن بيرتون أوضح: "هذا بعيد تماماً عن الحقيقة. حيث كانت فترة إنتاج علمي كبير جرى بالكامل تقريباً في العالم الإسلامي". حيث كان لأعمال هؤلاء العلماء المسلمين، ومؤلفاتهم وملاحظاتهم المفصّلة بعناية، الدور الأكبر في إرساء أسس الحضارة الحديثة.

ثمّة حقيقة قد لا يعرفها الكثيرون، وهي أن القرار الذي اتخذته اليونسكو لتسمية عام 2015 بالسنة الدولية للنور كانت بمناسبة الذكرى الألفيّة لنشر ابن الهيثم (965-1040م) كتابه الشهير في البصريات "المناظر". ففي هذا العمل الكبير المؤلف من سبعة مجلدات، أحدث ابن الهيثم ثورة كاملة في معرفة كيفية عمل العين، وكيفية الرؤية، وخصائص الضوء. وكان أيضاً أول من بيّن أن الضوء الصادر عن الشمس أو عن القناديل ينعكس عن الأشياء ليدخل أعيننا.

وقال بروتون: "لقد كان ابن الهيثم مخترقاً خطيراً وفق مصطلحات الفكر المعاصر".

بيت الحكمة: حاضنة عالمية للأفكار

ثمة مفهوم آخر ذي صلة بوادي السيليكون هو مفهوم الحاضنة، أي المنظومة التي توفّر للعباقرة المحتملين الفضاء والموارد اللازمة لرعاية أفكارهم. وفي هذا السياق، رأى بروتون أن أحد أسباب ازدهار العلم في ظل الإسلام في العصر الذهبي هو أنّ الخلفاء والسلاطين في ذلك الوقت كانوا يعظمون مكانة العلم والعلماء.

وقال بروتون: "لقد اعتبروا أن من اللائق استقطاب أعظم العلماء، وأكبر المكتبات، وأفضل المراصد الفلكية، ودار الحكمة الأكثر شمولاً خلال خلافتهم؛ فهذا برأيهم رمز للمكانة". وأضاف: "إنها أخلاقيات الابتكار، ومبدئيات الإبداع، التي تعمل على التحسين المستمر للوضع الراهن".


أما المساحة الشاسعة للعالم الإسلامي في ذلك الوقت، التي امتدت من إسبانيا في الغرب إلى الصين في الشرق، فكانت تعني أن الأفكار تتدفق. وانتشر استخدام اللغة العربية على نطاق واسع جداً.

وشرح بروتون: "سادت عند العلماء في ذلك الوقت منهجية توثيق العلوم، وبعبارة أخرى، كانوا مضطرين إلى كتابة معارفهم وتمريرها إلى الأجيال المقبلة"، ما يعني أن قدراً كبيراً من الجهد وضع في الترجمة.

وأضاف: "لقد جرت ترجمة الأعمال القديمة المكتوبة أصلاً باليونانية والسنسكريتية والفارسية وغيرها من اللغات إلى العربية لجعلها في متناول الباحثين العرب، ومن ثم ترجمت إلى اللاتينية والإنجليزية".

تسجيل وتبادل ذاكرة قدامى العلماء المسلمين

كان جزءاً من أخلاقيات عمل العلماء المسلمين أن يسجّلوا نتائجهم وأبحاثهم قبل وفاتهم. كانوا في الواقع ناقلين عظماء للعلوم، أولوا عناية للتفاصيل ولتوثيق جميع جوانب التجارب والابتكارات والاكتشافات.

كتب الكندي (801- 873 م)، الذي يعدّ أحد أعظم 12 عقلاً بشرياً في التاريخ، كتاباً مفصلاً للغاية، وصف فيه 50 جهازاً ميكانيكياً وآلة، طوّرها وقدم رسومات دقيقة لها. لقد اضطلع بدور رئيسي في إدخال الأرقام العربية والصفر إلى علم الحساب، العمل الذي تابعه علماء لاحقون.

كما يعدّ جابر بن حيان (721- 815 م) أب الكيمياء الكمية، ورائداً في العديد من التقنيات التي لا تزال قيد الاستخدام اليوم. كان ذا عقليّة تجريبيّة عظيمة، إذ سعى لإثبات كل شيء من خلال التجارب، وساعد على وضع المنهج العلمي لاختبار الأفكار من خلال التجربة والمراقبة. وكان أيضاً يكتب بأسلوب رفيع يقصد منه عمداً أن يكون بعيداً عن متناول غير المتخصصين في ذلك الوقت.

قال بروتون: "من المثير أن كلمة (jibberish) والتي تعني التكلم بكلام غير مفهوم في اللغة الإنجليزية مستقاة من اسم جابر بن حيان بسبب الأوصاف المعقدة والمصطلحات العويصة المتخصصة المستخدمة في مؤلّفاته".

وكان إسماعيل الجزري (1136- 1206م)، آخر مبتكر كبير في ذلك الوقت، فهو مهندس وموسوعي معروف باسم أب الروبوتات. بنى روبوتاً على شكل رجل، وكذلك ساعات مختلفة، بما في ذلك أول ساعة محمولة وساعة الفيل الرائعة. قام الجزري بشرح عمله في كتاب (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل).

وعلى الرغم من أن الأطروحات البحثية لأوائل العلماء المسلمين موثقة بشكل جيد، فهي للأسف غير معروفة جيداً في الغرب. وقام بروتون، من خلال خلفيته العلمية واهتمامه بدراسة الابتكار والإبداع، فضلاً عن خبرته كمراسل علمي، بالسفر عبر العالم مع معرض يعرض إنجازات بيت الحكمة القديم. كما كان أيضاً مستشاراً في تشييد متحف العلوم والتقنية في الإسلام، في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية.