Top

اكتشافات جديدة عبر الحمض النووي القديم

منذ أيام دراستها في المرحلة الابتدائية، ظل شغف حنين أحمد بعلم الأحياء ينمو. وبعد حصولها على درجة الدكتوراه في علوم النبات من كاوست، واصلت أبحاثها كزميلة ما بعد الدكتوراه ضمن برنامج ابن رشد في مركز الأنثروبولوجيا والجينومات في تولوز، فرنسا.

 منذ طفولتها، كانت حنين أحمد شغوفة بعلم الأحياء. وتستحضر بذاكرتها يومًا مميزًا حين كانت طالبة في المرحلة الابتدائية بالمدينة المنورة، عندما أجرت أول تجربة علمية لها وشاهدت نتائجها عبر المجهر الضوئي. لقد أبهرتها العوالم الخفية التي لم تكن تراها من قبل، وظلت هذه الدهشة العلمية ترافقها في مسيرتها حتى اليوم. 

مدفوعةً بحلم الطفولة، واصلت حنين مسيرتها الأكاديمية بشغف. وبعد تخرجها من جامعة طيبة، التحقت ببرنامج الدكتوراه في علوم النبات في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، تحت إشراف البروفيسور سايمون كراتينغر. وتتذكر حنين جيدًا أول مرة سمعت فيها عن كاوست خلال يوم تعريفي لبرامج الدراسات العليا بجامعة طيبة، في أواخر مرحلتها الجامعية. 

وتقول"ما جعلني أحسم قراري بالالتحاق بكاوست هو بيئتها الفريدة والمحفزة. فالفرصة للعمل مع باحثين من خلفيات متنوعة، والانخراط في مشاريع بحثية متعددة التخصصات، والانتماء إلى مجتمع مترابط من العقول الشغوفة بالعلم، أمور لا تُقدّر بثمن. كاوست كانت الخيار الطبيعي لي".  

بتشجيع ودعم من أستاذها، تعمقت حنين في علم الجينوم النباتي، وركزت أبحاثها خلال الدكتوراه على جينوم التعداد النوعي والتاريخ التطوري لنوعين من الحبوب القديمة: الدخن الأفريقي (فونيو)، وهو محصول تقليدي موطنه غرب إفريقيا وله إمكانيات واعدة في الزراعة الجافة، والقمح وحيد الحبة (القمح البري)، وهو أول أنواع القمح التي تم استئناسها منذ حوالي 10 آلاف عام، ولعب دورًا محوريًا في نشأة الزراعة. 

توضح حنين"حققنا اكتشافات مهمة في مجال جينوم التعداد النوعي للحبوب. فعلى سبيل المثال، أظهرت نتائجنا أن التنوع الجيني للدخن يتأثر بالتوزيع العرقي والاجتماعي في غرب إفريقيا، ما يدل على أن العوامل الاجتماعية تترك بصمتها على أنماط الجينوم. كما ساعدتنا دراستنا للقمح وحيد الحبة في فهم دور التداخلات الجينية (introgressions) في تشكيل البنية التعدادية والتنوع الوراثي لهذا النوع من القمح، وهو ما يلقي الضوء على كيفية تأقلم القمح خلال المراحل الأولى من الزراعة".   

يشار إلى أن نتائج هذه الدراسة الرائدة نُشرت في مجلة نيتشر (Nature)، وهي إحدى أبرز المجلات العلمية متعددة التخصصات عالميًا. 

خلال فترة دراستها في كاوست، قدّرت حنين على نحو خاص الفرص التي أُتيحت لها للمشاركة في التدريس والنقاشات العلمية، مما جعل من تجربتها الأكاديمية رحلة تحول حقيقية، تقول "كاوست لم تمنحني فقط الأدوات والفرص اللازمة لخوض مغامرة علمية شغوفة، بل ساهمت في تطوير شخصيتي إلى الأفضل. فالبيئة المتنوعة، التي تجمع أشخاصًا من جنسيات وخلفيات متعددة، مقرونةً بجودة معيشة متميزة، صنعت أجواءً استثنائية. لقد كانت بالنسبة لي رحلة نمو شخصية وعلمية لا تُنسى".  

 

حنين أحمد مع مشرفها في رسالة الدكتوراه البروفيسور سايمون كراتينغر (يسار)، والبروفيسور رود وينغ (يمين)، مشرفها في زمالة ابن رشد.

كان فضول حنين العلمي، إلى جانب شغفها بالتاريخ الثقافي الغني للمملكة، الدافع وراء خطوتها التالية. فبعد حصولها على الدكتوراه من كاوست، التحقت بمختبر البروفيسور لودوفيك أورلاندو، أحد أبرز العلماء عالميًا في مجال الحمض النووي القديم والجينوميات التطورية، وذلك في "مركز الأنثروبولوجيا والجينومات في تولوز" (CAGT)  بفرنسا.  

يعتمد هذا المجال العلمي المتسارع على تحليل الحمض النووي القديم والحديث لفهم تطور الجينوم عبر الزمن، ما يساعد على تفسير التنوع الوراثي الحالي وآليات التأقلم لدى الإنسان والكائنات الحية مع التغيرات البيئية والأمراض وتأثير التدخل البشري. 

تركز أبحاث حنين الحالية على تسلسل الجينوم الكامل لأكثر من ألف عينة من الخيول القديمة والحديثة، تغطي أربع قارات. ومن خلال هذا المشروع، تهدف إلى كشف البنية الجينية لسلالات الخيول وتحديد توقيت ومصادر التهجين الوراثي فيما بينها. وتشمل خطتها جمع عينات من المملكة، وهي متحمسة بشكل خاص لما أُعلن مؤخرًا عن اكتشاف أكثر من 27 ألف موقع أثري جديد في المملكة تحتوي على بقايا حيوانية وآثار كائنات قديمة. وترى أن هذه المواقع تمثل كنزًا علميًا واعدًا. 

تحظى أبحاث حنين أحمد في تولوز بدعم من "زمالة ابن رشد لما بعد الدكتوراه" التي تقدمها كاوست، وهي زمالة تنافسية تهدف إلى تمكين الباحثين السعوديين المتميزين من اكتساب خبرة بحثية في مؤسسات مرموقة عالميًا، وتوفير التمويل الأولي اللازم لإطلاق مسيرة أكاديمية مستقلة تتمحور حول البحث والتعليم العالي. ويحظى الزملاء في هذا البرنامج بدعم من مشرف علمي من كاوست، بالإضافة إلى إمكانية استخدام مرافقها الحديثة ذات المستوى العالمي.  

ورغم أن حنين تستمتع بتجربتها الحالية في تولوز وتؤكد أهميتها، إلا أنها ترى أنها مجرد محطة مؤقتة في مسيرتها المهنية. 

وتختم حديثها قائلة "حلمي هو تأسيس مركز أبحاث الحمض النووي القديم في المملكة العربية السعودية. أرغب في أن أكون في طليعة الجهود الرامية إلى بناء أدوات وخبرات وطنية قادرة على فك أسرار التاريخ العميق للمملكة والشرق الأوسط باستخدام تقنيات الجينوم القديم".  

تتمتع شبه الجزيرة العربية بموقعها الاستراتيجي الذي يجعلها نقطة التقاء بين حضارات قديمة وإمبراطوريات تاريخية، مما يمنحها مكانة مميزة في تاريخ البشرية. ورغم أن الدراسات الجينية في المنطقة لا تزال في مراحلها الأولى، فإن المستقبل يحمل آفاقًا واعدة لاكتشافات غير مسبوقة. وحنين أحمد تسعى جاهدة لتكون في صميم هذا المستقبل المشرق وتعزيز أبحاثها واستكشافاتها لتدعم جهود المملكة في أن تصبح مركزًا رائدًا في العلوم والتقنية وتعزز من حضورها العالمي في مجال الاكتشافات والبحوث العلمية.