Top

تحويل منظومة الرعاية الصحية في المملكة العربية السعودية

تدعم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)  تطوير قطاع الرعاية الصحية في المملكة، من خلال تحويل الأبحاث المخبرية إلى حلول ذكية ورقمية ودقيقة. وعبر مبادرات جريئة متعددة التخصصات، تترجم الجامعة ابتكارات عالية الأثر إلى السوق، بما يتماشى مع طموحات رؤية السعودية 2030. 

وقال رئيس الجامعة البروفيسور إدوارد بيرن "لا يمكن لمجتمعٍ نابضٍ بالحياة ووطنٍ طموح أن ينهض دون أساس متين من الرعاية الصحية الجيدة". ومن واقع خبرته الطويلة في أبحاث الرعاية الصحية، شدد على أهمية تسخير الذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية وعلم الجينوم وعلوم البيانات والتقنيات الذكية لتقديم حلول ذات أثر حقيقي على صحة الإنسان. وأكد أن كاوست، إلى جانب مركز التميّز للصحة الذكية، تعد من الجهات الرائدة عالميًا في هذا المجال. 

وأضاف "نحن لا نكتفي بالأبحاث، بل نستثمر في العلوم التطبيقية. العديد من الابتكارات التي ندعمها في طريقها نحو التسويق التجاري، مثل: أدوات التشخيص السريع، والتقنيات القابلة للارتداء في المجال الصحي، والأدوات الرقمية للكشف المبكر عن الأمراض - وهي ابتكارات ستعود بالفائدة على المملكة والأسواق العالمية".  

ومن جانبه، سلط البروفيسور أحمد الطويل من قسم الهندسة الكهربائية والحاسوبية، الضوء على تقنية ثورية من مختبره تُعرف باسم "حزمة أدوات الاستجابة الاجتماعية والشخصية التكيفية (SPARK)"، وهي منظومة مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل السلوك البشري، وتدمج أجهزة استشعار متعددة قابلة للارتداء وتقنية للتواصل مع جسم الإنسان. وتتيح هذه التقنية مراقبة السلوك في الوقت الفعلي، مما يوفر تغذية راجعة سياقية وتدخلات مبكرة، خصوصًا لدعم الأطفال المصابين بالتوحد. 

وأوضح الطويل أن الأطفال المصابين بالتوحد غالبًا ما يُظهِرون سلوكيات متكررة ومنعزلة اجتماعيًا. وتقوم حزمة (SPARK) بتتبع توقيت هذه السلوكيات ومدتها وسياقها. ومن خلال جمع بيانات سياقية باستخدام أجهزة الاستشعار مثل وحدات قياس (IMUs)، ونظام تحديد المواقع  (GPS)، تقدم المنظومة رؤى قابلة للتطبيق يمكن أن يستخدمها المعالجون لتخصيص التدخلات العلاجية بشكل فعال وبتكلفة أقل. كما يحتوي SPARK على روبوت محادثة (chatbot) يعمل بالذكاء الاصطناعي لإعادة توجيه الأفكار المتكررة وتتبع تطور التواصل اللفظي. 

وقال الطويل " توفر حزمة (SPARK) منصة متكاملة لتتبع السلوك وإعادة توجيه الإدراك، وتُحسن في نهاية المطاف نتائج العلاج للأطفال المصابين بالتوحد." 

ويُعد استخدام التقنيات القابلة للارتداء من المحاور الرئيسة في حلول الصحية الذكية في كاوست. فقد طوّر الباحثون نظامًا لاسلكيًا مطبوعًا بالكامل للتخطيط الكهربائي للقلب (ECG)، بالإضافة إلى ضمادات ذكية للاستخدامات الطبية المختلفة. وتتميز هذه الأجهزة بانخفاض تكلفتها وإمكانية مراقبة الحالة الصحية على نحو مستمر وفي الوقت الحقيقي، ما يعزز مفهوم الرعاية الصحية الشخصية عن بُعد في إطار ثورة "إنترنت الأشياء الصحية".  

وقال البروفيسور عاطف شميم من قسم الهندسة الكهربائية والحاسوبية "يمكن طباعة أجهزة الاستشعار هذه على مواد مرنة وغير تقليدية، وهي مصممة لتكون قابلة للاستخدام لمرة واحدة، ومتصلة لاسلكيًا بالتطبيقات عبر نظام بطارية متكامل وواجهة ذكية".  وأشار إلى أن النتائج التي أظهرتها هذه التقنية قابلة للمقارنة مع الأنظمة الحالية، ولكن بمرونة وراحة أكبر، وأضاف "نعمل الآن على اختبارها إكلينيكيًا في المستشفيات".  

ابتكار فعال 

استلهمت البروفيسورة نازك الأطب وفريقها من الطبيعة فكرة تطوير لصقة جلدية مستدامة وقابلة للتمدد والتنفس دون استخدام الغراء. وقد تم تصنيعها بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد المزدوجة، وتلتصق براحة على مختلف أنواع البشرة دون ترك أي بقايا، ما يجعلها خيارًا فعالًا للرصد الطبي في أثناء الحركة. 

قالت الأطب "استلهمنا التصميم من الشفاطات اللاصقة للأخطبوط، التي تُمكنه من الالتصاق بأسطح متعددة. وطبعنا نماذج دقيقة مشابهة على لصقتنا، ما يتيح لها الالتصاق بالبشرة دون الحاجة إلى لاصق كيميائي. كما أضفنا لها قنوات مجهرية دقيقة لتبخر العرق، مما يعزز الراحة ويجعلها مناسبة للاستخدام طويل الأمد".  

أما البروفيسورة دانا السليمان من قسم هندسة وعلوم المواد، فتقود جهودًا في تطوير الرعاية الصحية الدقيقة والشخصية من خلال منصات ذكية مدفوعة بالمواد المتقدمة. يشمل عمل فريقها تطوير أجهزة استشعار حيوية كهربائية تعتمد على مواد ثنائية الأبعاد، لاكتشاف العلامات الحيوية للأمراض بطريقة طفيفة التوغل وسريعة. 

كما تعمل السليمان على تطوير لصقة إبر مجهرية غير مؤلمة لتوصيل الأدوية عبر الجلد بشكل دقيق، مما يفتح آفاقًا جديدة في التطبيقات الطبية والتجميلية. 

وقالت "تتجاوز هذه المنصة متعددة الاستخدامات الكثير من قيود طرق توصيل الدواء التقليدية. وقد نجحنا في إيصال بروتينات كبيرة الحجم كدليل على المفهوم. كما تفتح العديد من الاحتمالات في مجال تطوير مستحضرات التجميل والأدوية واللقاحات".  

الرعاية الصحية الذكية 

تمكين الكوادر الصحية هو أحد المحاور الجوهرية في رسالة كاوست في مجال الصحة الذكية. ويقود البروفيسور يسبر تيغنر من قسم العلوم الحيوية جهودًا لتطوير البحث الطبي الحيوي من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي وبرامج تدريب مستهدفة. وقد أطلقت كاوست برامج تعليمية عملية، منها دورة شهيرة على منصة "كورسيرا" التعليمية، كما يطوّر فريق تيغنر حالياً مبادرة جديدة لتعليم الذكاء الاصطناعي عبر منصات مدعومة بالبرمجة التفاعلية. 

قال تيغنر "التحول الحقيقي هو وضع تلك البيانات في أيدي الأشخاص الذين لديهم الأسئلة - ومنحهم الأدوات اللازمة للتفكير في هذه الأنظمة المعقدة. وهذا يمهد الطريق لطب أكثر فعالية".  

وفي مجال أبحاث التوحد، تدرس البروفيسورة لينا إبراهيم من قسم العلوم الحيوية معالجة المعلومات الحسية على مستوى المشابك والدوائر العصبية من منظور النمو العصبي. ويبحث فريقها كيف تؤدي الاضطرابات في هذه المسارات إلى فرط الحساسية الحسية لدى مرضى التوحد. 

وباستخدام نماذج حيوانية، يدرس الفريق كيف يدمج الدماغ المدخلات الحسية مع السياق والذاكرة، وكيف تؤثر اختلالات النظام العصبي في الإدراك. وتوضح إبراهيم "نستخدم أدوات مثل النواقل الفيروسية للتلاعب بخلايا أو دوائر معينة في الدماغ - بما في ذلك الخلايا العصبية المثبطة — لملاحظة تأثير هذه التغيرات على المعالجة الحسية. كما نستخدم تقنية (CRISPR) لتحرير الجينات ودراسة تأثير الطفرات على وظيفة الدماغ".  

وأضافت "هدفنا النهائي هو دمج بيانات نشاط الخلايا العصبية والتعبير الجيني وأنماط السلوك لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي تفسر وظائف الدماغ لدى المصابين بالتوحد. وعلى المدى الطويل، نسعى لإنشاء أنظمة استشعار مغلقة قادرة على دعم التشخيص والتدخل العلاجي من خلال فك شيفرة إشارات الدماغ في الوقت الحقيقي".  

أمل جديد في علاج الهزال العضلي  (الدنف) 

لطالما كان الدنف أو الهزال العضلي (Cachexia): حالة فقدان شديد للكتلة العضلية غالباً ترتبط بالسرطان والأمراض المزمنة والشيخوخة، تحديًا في مجال العلاج. إلا أن البروفيسور عماد غالوزي، رئيس مركز التميّز في الصحة الذكية في كاوست، كشف عن نتائج واعدة من مختبره.

البروفيسور عماد غالوزي، رئيس مركز التميّز للصحة الذكية في كاوست، يعرض نتائج بحثية رائدة خلال المؤتمر الافتتاحي لمركز التميّز للصحة الذكية: "تشكيل مستقبل الصحة الذكية".

فقد أظهر فريقه دورًا محوريًا لإنزيم "أوكسيد النيتريك المحرض" (iNOS) في تحفيز فقدان العضلات الناتج عن الهزال. ومن خلال استخدام مقاربات وراثية ودوائية، بيّن الفريق أن تثبيط هذا الإنزيم لا يمنع فقط ضمور العضلات، بل يعيد أيضًا عملية تصنيع البروتين في النماذج الحيوانية. 

واللافت أن الباحثين اكتشفوا مركبين جديدين أكثر فاعلية من مثبطات iNOS الحالية، ما يُمثل إنجازًا علاجيًا واعدًا. ويتماشى هذا العمل الرائد تمامًا مع رسالة مركز التميّز في الصحة الذكية لتقديم حلول تحويلية لأهم التحديات الصحية في المملكة والعالم. 

وفي ختام المؤتمر الافتتاحي لمركز التميّز للصحة الذكية في كاوست، أكد غالوزي أن "التقدم الحقيقي في مجال الابتكار الصحي يتطلب التعاون، وليس العزلة. فالأفكار القوية، وتحديد المشكلات بشكل واضح، وتشكيل فرق متعددة التخصصات التي تجمع بين التقنية والبيولوجيا والرعاية الصحية، هي العناصر الأساسية لتحقيق ذلك".  

وأضاف "عندما نُوحد جهودنا ونرى النتائج، فإن المستقبل يبدو واعدًا. وأنا أتوقع المزيد من الإنجازات الرائعة من مركز التميّز للصحة الذكية في كاوست".  

وتُجسد هذه الجهود الجماعية التزام كاوست الراسخ ببناء مستقبل أكثر ذكاءً وصحة للمملكة والعالم.