Top

خوارزمية للنجاح

عالم من وكالة ناسا يسافر في رحلة من لانغلي إلى "نقطة ساخنة" للحوسبة الفائقة في المملكة العربية السعودية.

​​ 
 في أكتوبر 2016، حزم مارك كاربينتر، وهو عالم رئيسي في وكالة ناسا، حقائبه متجهاً نحو المطار. كان يعتزم استكشاف مسألة بحثية استحوذت على اهتمامه لسنوات: فقد رغب في التحقق من قدرة الباحثين على استغلال طاقة أسرع الحواسب في العالم في محاكاة حركة الأجسام في فضاء ثلاثي الأبعاد بالزمن الحقيقي، وذلك في ظل ظروف جوية ديناميكية تشبه الظروف الواقعية (الرياح والأمطار والاصطدامات إلخ). لقد كانت الجوانب الفيزيائية، في مثل هذه الحالات، تُحدّد في ظل ظروف جوية ثابتة، وكان من الصعب تحديدها بدقة كبيرة في ظل ظروف متغيرة، الأمر الذي يمكن للمحاكاة الهائلة المولدة بالحاسوب أن تقدمه، إذا جرى تزويدها بالخوارزميات الصحيحة.

قال كاربنتر: "كنا سعداء قبل 15 عاماً لفهم ما يحدث لجناح طائرة في الظروف العادية. أما في الوقت الحالي، وفي ضوء ازدياد الطاقة الحاسوبية، فقد شرعنا بالبحث عن نموذج لما يحدث للطائرة بأكملها في ظروف عديدة مختلفة. ونرغب في تحديد مخطط حدود الطيران للطائرة من الإقلاع والهبوط إلى الطيران وغيرها".

يبرع كاربينتر في وضع الخوارزميات، فهو رياضيّ تطبيقي عمل في هذا الميدان لمدة تزيد عن 27 عاماً في مركز أبحاث لانغلي التابع لوكالة ناسا في هامبتون في ولاية فيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية. ودفعته رغبته في متابعة وضع الخوارزميات، التي تغير العالم، وقدرة الحوسبة الفائقة العالمية إلى أن يستقل طائرته، ويتجه نحو أحد الأماكن القليلة في العالم التي يتوفر فيها الأمران معاً بدرجة واحدة: المناطق الريفية في المملكة العربية السعودية.
 

وضع معقل أبحاث على الخارطة

شرع خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز آل سعود في نهاية الألفية الثانية بتنفيذ خطة لتنمية الاقتصاد السعودي، تشمل تأسيس جامعة دولية للعلوم والتقنية في المملكة العربية السعودية على غرار الجامعة العربية العريقة "دار الحكمة". ولكن الملك الراحل لم يكن يطمح لمجرد جلب العلوم على نطاق واسع فحسب، بل كان يطمح أيضاً للإسهام في تصحيح بعض التصورات العالمية عن مواطن الإنجازات العلمية المرموقة والقائمين عليها.

بالانتقال سريعاً إلى 2015 عندما أعلن اجتماع لعلماء الحوسبة وقادة من القطاع الصناعي رسمياً أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تملك سابع أسرع حاسب فائق في العالم. ويمثل هذا قفزة نوعية لأية مؤسسة في العالم، ولكنها كانت مفاجئة أكثر بسبب وجودها في ثول في المملكة العربية السعودية. ولا يقلّ عن هذا أهمية بالنسبة لكاربينتر أن الفريق الذي يشغّل هذا الحاسب الفائق على أكمل وجه يعد من أفضل الفرق في العالم.

وفي خضم الضجة والإثارة الناجمة عن مؤتمر أبحاث عالمي في أتلانتا في جورجيا، تحدث ماتيو بارساني، الأستاذ المشارك في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، عن عمله مع كاربينتر، وكيف جمعتهما منحة من مؤسسة (CRDF Global) للعمل على المشروع الذي حلما بإنجازه أثناء عملهما في لانغلي.

وأضاف بارساني: "لقد قطعناً شوطاً بعيداً في قدرتنا على العمل مع زملاء من مختلف أنحاء العالم. ولا شك بأن (سكايب) جيد، ولكنه غير مناسب تماماً لطبيعة الأبحاث التي نجريها هنا. فعملنا يستلزم الوقوف معاً وكتابة المعادلات والخروج بأفكار. ويمنحك إجراء الأبحاث في القاعة نفسها والعمل على اللوح الأبيض نفسه شعوراً مختلفاً عن العمل عبر (سكايب). فوجود مسافة تفصل بين الباحثين ضارٌ بالعملية الإبداعية".


ماثيو باراساني​​ 


تسهيل التعاون

بدأت مؤسسة (CRDF Global) الأمريكية غير الربحية في أبريل 2016 باستلام طلبات لبرنامج زمالة أبحاث زائرة يديره مكتب جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية لرعاية الأبحاث. وكان الهدف بحسب الموقع الإلكتروني لمؤسسة (CRDF) "تسهيل مشاريع الأبحاث التعاونية بين الباحثين في المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وتشجيع التبادل الأكاديمي بين مجتمعي العلوم في البلدين". وقدمت زمالات 2016، التي منح أربعة منها إجمالاً، موارد لباحثي الولايات المتحدة للسفر إلى المملكة.

ومن هذه الزمالات كانت الزمالة التي منحت لكاربينتر، وهو خريج جامعة كارنيجي ميلون وبروفيسور زائر في جامعة أوبسالا وجامعة دلفت للتكنولوجيا.
 
قال الدكتور تيوفيلو أبراجانو، مدير مكتب الجامعة لرعاية الأبحاث: "لقد حدث هذا لأن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية كانت حريصة على بناء سمعتها. فقد جعلها تضافر عوامل متعددة كالبنية التحتية المتطورة والباحثين الممتازين وسجلها الحافل المتنامي من نواتج الأبحاث الرائدة، مقصداً عالمياً بكل معنى الكلمة".

وبحسب الموقع الإلكتروني لمؤسسة (CRDF Global): "فهي منظمة مستقلة غير ربحية تشجع التعاون الدولي العلمي والتقني من خلال المنح والموارد التقنية والتدريب والخدمات. وتؤمن (CRDF Global) بضرورة أن يعمل علماء العالم ومبدعوه معاً للمساعدة على إيجاد حلول للتحديات العالمية الحالية في مجالات كالصحة العالمية والأمن النووي والبيولوجي والكيميائي والترابط بين المياه والغذاء والطاقة". ويمكن لكل من يعرف جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أن يدرك أن هذا ينسجم تماماً مع توجهاتها.


ديفيد كييز

 
"أريد أن أشير إلى أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تمثل مسبقاً معقلاً علمياً، لأنها تستقطب علماء من هذا المستوى الرفيع. وكان هذا ثمرة تضافر عدد من العوامل (باحثين مشهود لهم ومختبرات عالمية المستوى وتصنيفات عالمية إلخ)، ولم يكن هؤلاء العلماء ليأتوا إليها لولا توفر هذه المقومات". 
ترتبط جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية بصلات وثيقة مع عدد من أرفع وأبرز المؤسسات العلمية في العالم. وتضم في هيئة تدريسها عدداً من الأعضاء السابقين في فريق لانغلي التابع لوكالة ناسا كالبروفيسور ديفيد كيس مدير مركز أبحاث الحوسبة الفائقة والبروفيسور بارساني، أو من الذين أجروا أبحاثاً هناك كجزء من تدريبهم الرسمي.

يقول كيس: "لقد عرفت د. كاربينتر منذ أكثر من 30 عاماً. وكان بوسعه أن يصبح أستاذاً جامعياً، ولكنه فضّل الأفق بعيد الأمد الذي توفره أبحاث الأيروديناميك الحسابية في وكالة ناسا. وإخلاصاً منه لرسالته، تحول إلى ناصح ومرشد حالما حطت به الرحال في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وازدحم مكتبه بعدد من طلاب الدكتوراه الموهوبين لدينا في مجال التحليل العددي وعلوم الحاسب الآلي".
 
يقول كاربينتر: "هذا النوع من التعاون مفيد على الأمدين القريب والبعيد. فمركز أبحاث الحوسبة الفائقة في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية يحفل بأشخاص يعملون في أبحاث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بديناميات الجريان الحسابية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنها ذات تأثير كبير على أبحاثي".
قضى كاربينتر معظم أوقات فصل الخريف في حرم جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، حيث عمل مع عدد من أعضاء فريق مركز أبحاث الحوسبة الفائقة ومنهم بارساني.
قال كيس: "نحن نعتبر أي زائر سفيراً وصاحب عمل مستقبلي محتمل لطلابنا. لقد نجح مارك في زراعة بذور على الأمد البعيد خلال فترة قصيرة".
 ​

التطلع إلى المستقبل

لقد وضع كاربينتر وبارساني خوارزميات للجيل القادم من أبحاث ديناميات الجريان الحسابية. وهما يتطلعان إلى كتابة خوارزميات فاعلة تتيح للباحثين أن يحسبوا حركة مواد الجريان كالماء والهواء حول الأجسام في الفضاء الفيزيائي بطريقة أسهل.

قال كاربينتر: "نعمل على نمذجة ديناميات الجريان باستخدام حواسب عالية الأداء. ولذلك، فنحن نضع خوارزميات تساعدنا على إجراء هذه النمذجة في الجيل القادم من الحواسب الآلية".

وقال بارساني: "بعد الشهر الأول، كان لدينا خيارات عديدة ينبغي اختصارها لتقديم أربعة أو خمسة مسارات مختلفة للتوصل إلى خوارزمية. وكان وقتاً مثمراً. ومن وجهة نظر التحليل العددي، فقد اقتربنا من التوصل إلى إجابة كاملة، وهذا مثير حقاً".

وأضاف كاربينتر: "كما يحدث في الأبحاث في أغلب الأحيان، كنا نعرف هدفنا، ولكننا توصلنا في نهاية المطاف إلى عدد كبير من الأفكار".

يخطط كاربينتر للعودة إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في مايو 2017 لتنشيط بعض الأبحاث التي بدأ العمل عليها مع بارساني وغيره. ويخطط أيضاً للمشاركة في مؤتمر برعاية مكتب الجامعة لرعاية الأبحاث يعقد في الحرم الجامعي.

وأضاف بارساني: "سيجذب المؤتمر الذي نعقده في مايو العديد من العاملين في ديناميات الجريان الحسابية إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية سعياً لدمج الأفكار والنهوض بهذا الاختصاص".